قصة "خيل الساعة"، للكاتب التركي سعيد فائق. نقلتها عن التركية.

خيل الساعة

كتبها: سعيد فائق (1906ـ1954) Sait Faik
نقلها عن التركية: محمّد وليد قرين

كان "أونال" الصغير مريضا. كان مصابا بمرض الحَصبة. كان الطبيب قد نبّهه بألا يخرج من المنزل. كان "أونال" الصغير في منزله الصغير ذو النوافذ المطلة على الشارع لا يدري ما يعمله من أثر الملل. وكان الجو يومئذ في غاية من الجمال! في الخارج كانت ثمة الشمس. قالت له أمه في الصباح عند خروجها من المنزل:

-    إن الجو مشمس في الخارج، ولكن الهواء قارص. إياك والخروج، كيلا يصيبك البرد!
عندما دخلت المرأة المسنّة إلى غرفة "أونال" وجدته على حافة النافذة غير مرتديا جاكيته الصوفي القصير.
-    أولم تنبّهك أمك؟!  لو أصابك برد ولو قليل فستلقى، لا قدر الله،  نفس مصير جدّك. أولم يقل الطبيب ذلك؟ هيا ارجع إلى فراشك! بسرعة!
-    ما أجمل الجو اليوم يا جدتي! وعلى أية حال لست مريضا. لست مصابا بالحمّى.
-    لست مصابا بالحمّى، ما شاء الله! وما هذه الأشياء الحمراء التي أراها على وجهك إذن؟! إن أصابك البرد فسيمتلئ وجهك كله بها.
-    مرحى!
-    وحينها سوف تتسمّم وتموت. قلت لك أنه لا يجب أن يصيبك البرد. هيا ارجع إلى فراشك! بسرعة!

دخل "أونال"  تحت فراشه. غطّت جدّته ظهره، ثم عادت إلى المطبخ.
كان أبو "أونال" قد مات عندما كانت أمّه حاملا به، واعتبره جدّه كابن له، لكنه كان قد توفي هو كذلك في العام الماضي. كانت أمّه هي التي تعتني بالمنزل. كانت فرّاشة في البلدية. كانت العائلة تتعيّش بصعوبة كبيرة.
ما إن خرجت جدّة "أونال"  من الغرفة حتّى ركض هذا الأخير نحو النافذة. كان ينظر إلى المتجر المواجه لمنزله. كان متجرا للألعاب وكان قد زُيِّنَ بمناسبة الاحتفال برأس السنة الجديدة الذي كان يصادف ذلك اليوم. والشمس سوف تغرب عن قريب، سوف يحل الظلام وسوف تشتعل كل أضواء بائع الألعاب. وفي متجره لم يكن هنالك وجود لا لـ"مـيكي ماوس"[1]، لا لسيارات ولا لطراموايات. كان يوجد فقط خيل أسود. كان "أونال" يرغب في الحصول على ذلك الخيل. وعند جذب عنان الخيل سوف تشتعل الأضواء في عينيه...كان عرفه أشقرا وكان رسغ ثلاثة من أرجل الحيوان أبيضا.

تخيّل الطفل الصغير أنه يمتطي الخيل، أنه يجري به، يجري به في سهل مغطّى بالثلج. كان "أونال" يرغب بشكل لا يطاق في أن يمتطي ذلك الخيل الأسود. فهو لم يكن مريضا على أية حال. هذا ما كان يقوله. فإن ارتدى ملابسه وامتطى مرة واحدة فقط ذلك الخيل، فلن يحدث له أي مكروه. وسوف تختفي تلك الأشياء الحمراء من وجهه. قالوا أنه سيصاب بالبرد...وما الذي سيحدث إن برد قليلا؟...آه، كم كان ذلك الطبيب رجلا سيّئا. كان يسجن الإنسان. سمع صوت جدّته من جديد. خفّ إلى فراشه. قالت له جدّته حينما دخلت إلى غرفته:
-    صحيت، أحسنت يا "أونال"! اسمع، لو  تبقى هادئا مثلما أنت هادئ الآن، فسوف أحضّر لك في المساء حلوة "قاباق طاطلسي"[2] ولن أصغي حتّى إلى كلام الطبيب. لدي الآن الكثير من العمل . ولكن إياك والخروج من فراشك!
وما إن خرجت جدّته من الغرفة حتّى ارتدى "أونال" ملابسه وخفّ إلى النافذة. كان بائع الألعاب قد أشعل كل أضواء متجره الذي كان عامرا بالأطفال وبالنساء. خرج أونال إلى الشارع ببطء. لم يجد أحذيته، فأدخل قدماه الحافيان في أحذية جدته من نوع "الإسكربين" وانسل إلى الشارع، متجها مباشرة نحو بائع الألعاب. كانت ليلة رأس السنة. كان الجميع يشتري لعبة لابنه. ولكن لا أحد كان قد اشترى له لعبة لحد ذلك اليوم...كان "أونال" يحب صور الألعاب. لكن كان الخيل الأسود ذاك قد استحوذ على قلبه. سوف يمتطيه مرة واحدة ليس إلّا. كان صاحب المتجر يغلّف الألعاب التي اشترتها النساء فكيف كان لبائع الألعاب أن يدرك أنّ طفلا صغيرا جدا قد دخل إلى متجره؟

دخل "أونال" إذن إلى المتجر. تجوّل داخله ثم انسل بين بعض الألواح واختبأ هناك.

بعدها لاحظ أن الأضواء من حوله انطفأت. لم ينزل صاحب المتجر سوى الستار الأمامي. أما ستائر شبّاك العرض، فلم ينزلها. كانت أضواء الشارع تدخل من خلال شُبّاك العرض. فتح "أونال" ببطء نافذة الواجهة الانزلاقية، وركب فوق الخيل الأسود. جذب عنانه وانحنى عليه. اشتعلت الأضواء في عيني الخيل. تصوّر "أونال" نفسه في سهل مغطى بالثلج. كانت السحب تجري من حوله. كانت عنان الخيل الفضية تتدلّى. نزلت من القمر أشعة فضية جليدية والتفّت حول "أونال". كان داخل نور زرقاء، كأنه كان يسبح في الماء، وكان ذلك الماء جليديا. ثم بدأ يسخن. في البعيد كانت هنالك نور صفراء تشبه أشعتها شعرا أشقرا وهّاجا...كان الخيل يجري متجها نحو تلك النور. كانت نور الشمس. أحس "أونال" باحمرار وبحرارة كما لو أنه كان يدخل في الشمس. لكأن شعره كان يحترق من أثر الحرارة. لكأن أعراف الخيل التهبت، وكانت تحرق يده. كان الخيل الأسود يلتهب مثل النار. أحس "أونال" فجأة بفراغ من حوله. ثم لم يحس لا بالحرارة، لا بالبرد، لا بالذهب، لا بالفضة، لا بالأصفر، لا بالأحمر، بل بدأ خيله بنعاله الأربعة يدخل به في عالم لونه بنفسجي وأزرق مثل زرقة سماء صافية وزرقة مياه عميقة.

وحينما دخلت الجدّة إلى غرفة "أونال" لكي تلقي نظرة عليه، وجدت المكان خاليا تماما فأصبحت كالمهبولة. لقد طلبت من الناس أن يبحثوا عنه في كل مكان، ولكن لا أحد رآه. امتلأ المنزل بجميع الجيران. لكن في حدود الصباح، دلّ الحارس للنساء المتجمعات أمام منزل "أونال" عن موضع تواجد الطفل الصغير. كان الحارس قد رأى طفلا صغيرا جدا متسمرا فوق الخيل الأسود المتواجد داخل شباك عرض متجر الألعاب. كان وجه الطفل مبتسما.

كسر الناس زجاج النافذة وحاولوا إنزال الطفل من الخيل. لكن "أونال" كان مازال يطير فوق الخيل، إذ لم يكن يستطيع تركه. لم تتمكن أي قوة إنسانية من إنزال "أونال" من الخيل. فحمل الناس "أونال" إلى منزله رفقة الخيل.
قالت الجدّة المسنة عندما رأت وجه حفيدها الذي صار لونه بنفسجيا:
-    آه يا "أونال"! ألم تسمع قول الطبيب؟! أولم يقل لك بأن هذه البقع الحمراء على وجهك سوف تعبث بك وتقتلك؟!
فنطقت جارة وقالت:
-    عندما يقرر المرء امتطاء خيل الساعة ولو لمرة واحدة، فلا أحد يستطيع أن يمنعه من فعل ذلك...
وفي ما يخصّ دفن "أونال"، فقد سمح بائع الألعاب بدفنه مع الخيل الأسود.

صدرت هذه القصة في جريدة "حرّيت" (الحريّة) التركية، بتاريخ 06/05/1948                                            



[1] Mickey Mouse اسم الفأر الشهير في رسوم والت ديزني المتحركة
[2] قاباق طاطلسي: اسم حلوى تركية يعني "حلوة اليقطين"  Kabak tatlısı

تعليقات

  1. Merci beaucoup pour cette belle traduction, qui nous aide à renouer avec l'arabe, on s'en éloigne parfois malgré soi !Je me risque à faire ma propre lecture, quitte à être à côté de la plaque : La mort du père, puis du grand-père pousse ces femmes à surprotéger l'enfant, de peur de le perdre à son tour, cette surprotection n'est pas accompagnée d'un dialogue véritable, l'enfant aurait pu comprendre qu'il devait rester à la maison, si seulement on lui avait demandé comment il se sentait (pas uniquement physiquement mais surtout moralement), si on avait joué avec lui, sa quête de liberté, le sentiment de solitude, et finalement surtout le sentiment d'abandon, aboutissent à cette triste fin. Les proches peuvent surprotéger l'enfant tout en ignorant ses émotions !

    ردحذف
  2. Je voulais rajouter qu'en plus de nous aider à renouer avec l'arabe, cette traduction nous fait découvrir une histoire écrite en Turc !Merci !

    ردحذف
    الردود
    1. Bonjour! Je vous en prie. Mais vous n'avez pas du tout été à côté de la plaque; bien au contraire! Votre lecture est très intéressante, car effectivement cette tragédie (mort de l'enfant) n'aurait pas eu lieu si sa mère et sa grand-mère s'étaient souciées aussi de son bonheur, si elles lui avaient acheté des jouets par exemple.

      En effet, j'aime partager avec les gens les histoires que j'ai aimées, et j'aime aussi leur faire découvrir d'autres littératures de divers horizons, et par conséquent d'autres façons de voir notre monde et de le concevoir.

      Je vous remercie à mon tour pour avoir pris le temps de lire cette histoire, et je vous remercie aussi pour vos observations pertinentes.

      Merci d'être passée!

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة