قصة "الأشجار اليابسة"، للكاتب عمر سيف الدين. نقلتها عن التركية

الأشجار اليابسة

كتبها: عمر سيف الدّين (1884-1920) Ömer Seyfettin
نقلها عن التركية: محمّد وليد ڨرين (مترجم  من الجزائر)

كان دلي مراد من بين أبشع الإقطاعيين في البلاد.  لكنه عندما كبر في السن بدأ يفرّق بين الخير والشر وكان كل عمل سيء، ولو كان صغيرا، يشعل في ضميره نار عذاب أليم لا تنطفئ . كان قد بلغ سنّ الخمسين. في ليالي الشتاء الطويلة، في غرفة برجه الفارغة- كان برجه يشبه قصرا مهجورا ومخيفا- كان ذهنه يشرد بين ألسنة نار الموقد ويفكر في الأفعال التي قام بها في حياته. فطوال ثلاثين سنة، كان قد اقترف كل الأعمال السيئة (لم تبق سيئة لم يقترفها هو). وفجأة تشكلت أمام عينيه صور القوافل التي نهبها والفتيات التي اختطفها، والمراكز التي هاجمها والقرى التي أحرقها والخانات التي دمرها، والمدن التي هاجمها، من دون أن ننسى الناس الذين قتلهم! لم يكن قادرا على أن ينسى هؤلاء الناس. صحيح أنه قتلهم من أجل أن ينقذ نقسه وحياته ولكن هذا لم يكن يغير في الأمر شيئا، إذ أنه أراق دماء أربعين شخصا! أجل، أربعين!

ذات ليلة، لم يستطع أن يجد النوم حتى الصباح. لم يكن الفجر قد انشق بعد. فأمر خدمه بأن يعدوا له الخيل وانطلق مسرعا نحو البلدة، وعندما وصل هناك وجد قارة بابا، الذي كان قد انتهى للتّو من صلاة الصبح، جالسا فوق سجادته. كان ذلك الشيخ من بين أكبر الأولياء الصالحين في ذلك الزمن، وكانت تكيّته ملجأ اليائسين. عندما رأى قارة بابا دلي مراد، ابتسم إليه وقال له:
-     مرحبا بك. كنت أنتظرك
-     كنت تنتظرني أنا.
-      أجل
-     ولماذا؟
-      (تريد أن تحجّ، أليس كذلك؟
-     ...
كان قارة بابا يعلم بكل شيء ويرى كل شيء وعلى اطلاع بما لا يعلمه الغير. فانحنى دلي مراد إلى أيادي ذلك الشيخ المبارك وقبلهما، ثم قال له:
-       نعم، أريد الذهاب إلى الحج، ولكني لا أجرأ على أن أحج إلى بيت الله. وجهي ما شي وجه تاع   حا ج.
-     إنّ الله غفور رحيم.
-     ذنوبي كثيرة ومعاصي كبيرة جدا!
-     ...
جثا دلي مراد على ركبتيه فوق حافة السجادة، ثم حكا للشيخ وعيونه تفيض دموعا ما اقترفه من ذنوب ومعاصي في الماضي.
فقال له قارة بابا:

-     قتلت أربعين نفسا.
-     نعم.
-     ربّي يغفرها لك. (سيغفرها الله لك)
-     كيفاش؟ (كيف؟)
-     إما أن تقتل شخصا يستهل الموت...(يا تقتل واحد يستهل يموت...)
فقطع دلي مراد كلام قارة بابا وصاح قائلا:
-     يا إلهي! لا استطيع الآن أن أقتل رجلا! (يا لطيف، أنا دوقا ما نقدرش نقتل عبد!)
واصل قارة بابا حديثه فقال:
-     وإما أن تفتح خانا (فندقا ريفيا) وتكرم القادمين وتجعلهم مسرورين دون التمييز بين الغني والفقير.
أعجب دلي مراد بهذه الكفالة الثانية واستحسنها . لم يكن يعرف مقدار النقود التي كان يمتلكها، ولكن ذلك لم يكن مهما. سيفتح خانا إذًا.
أجاب دلي مراد الشيخ قائلا:
-     حسنا يا بابا، سيكون الخان مفتوحا بداية من الغد. ولكن كيف لي أن أعرف إن غفرت جرائمي أم لا؟
-     وماذا ستفعل عندما ستعرف؟
-     سوف أحج.
فكّر قارة بابا للحظة، ثم قال لدلي مراد:
-     اغرس أشجارا يابسة في حديقة الخان الداخلية.
-     أن أغرس أشجارا يابسة؟
-     نعم، عندما ستورق تلك الأشجار وتنفتح أزهارها، ستعرف حينها أن الدماء التي أرقتها قد غُفرت وأنّ كفّارتك قد قُبلت.
-     ولكن الأشجار اليابسة لا تورق ولا تزهر.
-     بلى.
-     ...!  
كان برج دلي مراد،  الذي كان يشبه قصرا موحشا، يقع فوق أرض سهلة، وكان المسافرون القادمون من جميع أرجاء المعمورة  مجبورون على المرور عبر الأرض التي كان سيقام فيها الخان. شيّد دلي مراد بسرعة خانا ووضع مائدة في كل غرفة من غرف الخان وكان عشرون مرجلا يغلي في اليوم. لم يكن دلي مراد يسمح لأي أحد من المسافرين أن يواصل سفره إلّا بعدما أطعمه من خبزه ولحمه وأرزه، كما غرس دلي مراد في حديقة الخان الداخلية أشجارا يابسة، مثلما قال له قارة بابا، وكان يراقب تلك الأشجار كل يوم. ثم مرّت سنة ثم سنتين فثلاث سنوات.  وكانت الأشجار اليابسة تميل إلى التعفن. كان المراجل لا يزالون يغلون كل يوم وكانت الحياة تواصل مجراها الطبيعي صيفا وشتاءً. فارتاب دلي مراد شك وقال في نسفه: "هل أنا بهلول؟ أحدث وأن أزهرت أشجار يابسة؟  لا شك في أن قارة بابا قد خدعني لكي أداوم على فعل الخير!"  كان يقضي أيامه بالجلوس في التعريشة المقابلة للخان ويراقب كيف كان خدمه يضيّفون ويكرمون المسافرين. كان يجبر حتّى الشبعانين على تذوّق مأكولاته. وذات يوم، وبينما هو في تعريشته يفكّر في أن كفالته قد قبلت وأنه سيستطيع أن يحجّ، غاص في النوم ورأى في ما يرى النائم حلما جميلا. حلم بأنه كان يتقدم وسط الصحراء على ظهر جمل وفجأة توقف الجمل فحاول دلي مراد جاهدا أن يسيّره ويحرّكه لكن دون جدوى. ثم انتفض الجمل فانقلب دلي مراد من على ظهر الدابة وتدحرج فوق الرمل. فتح دلي مراد على إثر ذلك عينيه وقال لنفسه:

-     هذا فأل خير إن شاء الله!   
ثم رأى خدمه وهم يتكلمون على الطريق مع فارس. راقب المشهد. لم ينزل الفارس من خيله، وكان يقول لخدم دلي مراد:

-     خلّوني! (اتركوني!) إني على عجلة من أمري! لا يمكنني التوقّف ما نقدرش نهبط من العود (لا يمكنني أن أترجل من على خيلي).

لكن الخدم كانوا يحثونه على النزول من خيله ويقولون له: "اهبط وكل شوية من الشربة، ومن بعد روح! لو كان نخلّوك تجوز يزعف علينا الآغا." وأمام ذلك المشهد اعتدل دلي مراد في جلسته. ثم قام من مكانه لكي يذهب إلى ملاقاة المسافر ويرجو منه أن ينزل من خيله، وبينما كان دلي مراد يمشي في الطريق جذب المسافر شبّ خيله وأفلت من أيدي الخدم. قال دلي مراد في نفسه: "والله سأجعلك تذوق من مطبخي!" ثم أخرج مسدسه من خاصرته. كان حينها يمكنه أن يصيب عصافير الدوري المحلقة في السماء من دون أن يصوّب. فصوّب مسدسه نحو خيل المسافر الذي كان يبتعد بسرعة وقال لنفسه: "لن يمكنه أن يذهب بعيدا عندما أقتل خيله. وحينها سوف يأكل من شربني وسأهبه خيلا من أفضل الخيول التي أملكها وسوف يسُرّ بذلك."  فضغط على زناد مسدسه وانطلقت الرصاصة، لكن الحصان لم يتوقف بل نهض أما الخياّل فانقلب من على ظهر الحيوان وسقط على الرمل. فانطلق دلي مراد مع خدمه مسرعين نحو الخيّال بهدف إنجاده. ولكن ماذا رأوا عندما وصلوا إلى موضع سقوط المسافر؟ دخلت الرصاصة التي كانت موجهة إلى الخيل من قفا صاحبه المسكين وخرجت من جبينه. كانت  الدماء تسيل من وجهه. أحس دلي مراد بأنه يكاد أن يفقد عقله. وهكذا كان قد قتل خطأً نفسا أخرى وهو يحاول أن يكفّر عن ذنوبه ويلتمس توبة الله. فأخذ يبكي، وذعر خدمه من شدّة  حزنه وتأثّره. كان يصرخ قائلا لهم: "خلّوني، ابتعدوا عنّي، سوف أقتل نفسي. لم أعد أستحق العيش على سطح هذه الأرض!"  انتزع خدم دلي مراد بصعوبة مسدسه من يده، وقادوه إلى غرفة في الخان بهدف تهدئته. وعندما دخلوا حديقة البستان، صاح دلي مراد فجأة وقال:
-     آ... انظروا، انظروا!
كانت كل الأشجار اليابسة قد أزهرت مثل أشجار اللوز في الربيع ، وأذهلت تلك المعجزة الجميع. أما دلي مراد فقبّل أسفل الأشجار من أثر الفرحة وكانت دموع السرور تفيض من عينيه. وهكذا كان قد تم العفو عن معاصيه وعن الأربعين نفسا التي قتلها. يعني أن ذلك الرجل الذي قتله خطأً  كان شخصا آثما يستحق الموت!
قام دلي مراد بعد ذلك بالتحقيق في هوية الرجل الذي قتله. كان كل مستأجري الخان يعرفون المقتول، وعندما علموا بمقتل الفارس حزنوا وقالوا لدلي مراد بنبرة تنم عن الأسى:
-     لم يكن هناك رجل خيّر مثله في العالم كله!
-     كلا، كلا! قال دلي مراد. هذا رجل آثم يستهل الموت!
لكن الأشخاص الذين كانوا يعرفون (معارف) المقتول لم يقبلوا جواب دلي مراد فأجابوه قائلين:
-     كلّا، كان رجلا مباركا وخيّرا! لم يكن يصيب النساء بأذى. كان يصلي صلواته الخمس ويصوم ثلاثة أشهر في السنة ويعتني بالفقراء والمساكين وكبّر يتامى ما شاء الله!
-     كلّا! هذا رجل آثم يستهل الموت!
ومهما ما كان يقوله دلي مراد كان جميع الناس المجتمعين حول الجثة يعارضونه بشهاداتهم على أن الرجل الذي قتله كان إنسانا طيّبا. وفي النهاية قال لهم دلي مراد:
-     كان إذُا مُقْدِمًا على ارتكاب إثم كبير!
ثم أمر خدمه بتفتيش المقتول، فلم يجدوا شيئا ما عدا رسالة، وكانت هذه الأخيرة قد كتبت ضد امرأة شابة وعفيفة . كانت رسالة موجهة إلى زوج تلك المرأة.                     

تعليقات

المشاركات الشائعة