قصة "الإعصار" ترجمتها من الإيطالية، للكاتب الإيطالي دينو بودزاتي

" الإعصار"


كتبها: دينو بودزاتي (1906-1972) Dino Buzzati
نقلها عن الإيطالية: محمّد وليد ڨرين (مترجم من الجزائر) 

مرّ عام منذ أن لاحظت مدى تبدّل صديقي "أومبرتو" سكندري. كان يبلغ من العمر ثلاثين سنة؛ كان طابعا، ناشرا ورسّاما متألّقا كذلك. كان مثقفا رائعا. إلا أن وجهه كان يبدو على الأرجح وجه ملاكم: عريضا، صلبا ومقطّبا؛ ولكن عينيه الصغيرتين كانتا تلمعان ذكاء وتعبّران عن طيبة نفسه. كان صديقي يملك قلبا سليم النية، وكانت لديه في نفس الوقت شخصية قوية وآمرة.
رغم أنّي كنت أكبره بكثير إلا أن صداقة رائعة نشأت بيننا تربطها ثقة كبيرة وأحلام مشتركة. اقتربنا من بعضنا البعض في إطار العمل، ثم تعودنا على الالتقاء في كل مساء، بالرغم من  أنّ "أومبرتو" كان متزوّجا.
المهم. قبل قرابة عام أخذت لقاءاتنا في التباعد. كان لـ"أومبورتو" أعمالا طارئة، مقابلات أعمال، المهم كان يتعلّل دائما بسبب جديد. وفي المرات القليلة التي تمكنت فيها من "اصطياده" كان صديقي يبدو لي شارد البال، متوتّرا، قلقا وغير متسامح، علما أنني ألفته سعيدا ومنفتح القلب. غريب، لكأنه كان مصابا بالحمى.
طبعا كنت أدرك أنه كان مهموما بفكرة ما. ولكن لم  أسأله. إن كان هو ، بطبعه الصريح للغاية، لا ينبس بكلمة، فكان ذلك يعني أن سببا خطيرا كان يفرض عليه السكوت. ولم يكن من اللائق أن ألح عليه.
ظل صديقي على هذه الحال إلى غاية  ذات مساء - في "لا بياتسا ديلّا ريبوبليكا[1]" (ساحة الجمهورية)، أتذكر أن السماء كانت تمطر- حينما تمسّك بذراعي وقال لي، بصوت لم آلفه عنده، صوت خائف يشبه صوت طفل:
- حلّت بي مصيبة.
يا حسرتاه، كنت قد أدركت ذلك من قبل، ولكني تصنّعت الجهل فأجبته قائلا:
- ماذا حدث لك؟ 
نظر إلي بعينين متضرعتين، كما لو أنه ينتظر مني أن أعفو عنه. فدمدم قائلا:
- السبب امرأة.
- كنت أعرف ذلك.
كان ذلك الرجل في فتوة العمر، الواثق من نفسه، المنفجر بالنشاط وبالأفكار، ذلك الرجل الرائع باندفاعه، بحماسه وبسرعة أخذ القرارات، كان حينها شبيها بدودة ترتعش.
قلت له:
- ولكنّها تحبّك؟ 
- كلا.
- وأين المشكل إذن؟
- هذا هو المشكل.
ثم حكا لي، بتفاصيل عديمة الأهمية ومملّة، من كانت تلك المرأة وكيف كانت تعامله بطريقة سيّئة وكيف كان هو يعجز على العيش من دونها، كانت قصته مثل تلك القصص العديدة والحزينة التي تحدث في هذا العالم المظلم.
ولكن "أومبرتو" كان يدرك وضعه السخيف،  إذ كان هو مغرما بها أما هي فكانت لا تبالي البتّة بحبه لها. كان يقول أنها كانت جميلة، أجل، ولكن لم يكن يسعى، مثلما يفعل الرجال في حالات كهذه، إلى تحويل هذه المرأة إلى حسناء، لا، بل كان يصفها بخشونة، فكانت تلك المرأة على لسان صديقي ماهرة في التحايل، ماكرة، طامعة للدراهم، وذات قلب من حجر.
 ولكنه لم يكن قادرا على الاستغناء عنها. سألته قائلا:
- وهل تعتقد أنه لا يمكنك تركها؟
- كلا ، لا أستطيع أن أتركها الآن.
- ولكنك تدرك أن امرأة كهذه...؟
- تقصد أنها سوف تسبّب هلاكي ؟ طبعا أدرك ذلك. ولكن...
تعرّفت عليها يومين بعد ذلك. كانت في استوديوها، جالسة على الأريكة. كانت شابة للغاية، بوجه طفولي مليء بالحيوية، وجلد مشدود في فتوّة عمر يستحيل وصفها. كان شعرها أسودا طويلا مكوّرا في تسريحة غريبة من تسريحات القرن الثامن عشر. كان جسدها لا يزال شابا. جسد مراهقة. هل كانت جميلة؟ لا أدري. كانت امرأة غير عادية، شعبية وأنيقة في نفس الوقت. ولكن كان هناك تناقض جسيم بين ما كان قد حكاه لي "أومبرتو" وبين مظهر تلك المرأة. فكل شيء فيها كان يتنفّس البهجة، طيش الشباب، فرح العيش، واستسلام ساذج لإغراءات الحياة. على الأقل، هذا ما كان يبدو لي من خلال مظهرها.
كانت لطيفة جدا معي، إذ كانت تثغثغ مثل طفلة صغيرة وهي تنظر إلي. ثم كانت شفتاها تنفتحان على ابتسامات ماكرة، بل كانت تبالغ في فعلها ذلك، كما لو أنها كانت لديها نية واضحة لتفتنني. أما أومبرتو، فلم تكن تكترث به، لكأنه لم يكن موجودا. كان "أومبرتو" واقفا يتأمّلها بنظرات أبله، وابتسامة مغتصبة مرتسمة على شفتاه.
وبلا حشمة مثيرة للدهشة، قامت "لونيلّا" بتسوية فستانها وتركتني بالتالي ألمح أكثر من ما هو مسموح بلمحه. ثم حنت رأسها باستفزاز مثل تلميذة صغيرة وقحة، وقالت لي:
- أتعرف من أنا؟ أنا الإعصار، أنا قوس قزح. أنا...أنا طفلة رائعة.
ثم كانت تضحك، سعيدة على ما يبدو بكلماتها. ولاحظت في تلك اللحظة بالذات، من وراء دلالها الصبياني، قدرة لا متناهية على الكذب متحكّم جدا فيها. أعجز عن تفسير السبب. كان تقريبا شعورا جسديا.
لكنها التفتت أخيرا إلى "أومبرتو". وسألته راسمة على شفتيها أمكر ابتساماتها، فقالت له:
"هيّا يا "موتشي"، قل لي يا سنجابي الصغير."
هزّ "أومبرتو" رأسه، بين الرضا والانزعاج.
 "هيّا يا "موتشي"، قل لي يا سنجابي الصغير."
نظرت إلى صديقي الذي تمتم ببلاهة: "سنجاب...". "سنجابي" حثته هي قائلة. "سنجابي" أكد هو، مهزوما.

ثم كانت تقطّب شفتاها الجميلتان وتقول "سكويز، سكويز" مقلّدة بذلك بطلا حيوانيا من أبطال والت ديزني ، وكانت ترافق قولها بحركات صبيانية. كانت في نظراتها سخرية كبيرة، ولذة باردة في الامتلاك، جعلت قشعريرة تعبر ظهري كلّه.
وبعد أن خرجت المرأة، سألت "أومبرتو":
- لماذا تسمح لها بأن تسمّيك "موتشي"؟ هل أنت واع بمدى تذليلها لك؟
- أوف، قال هو. يجب أن تكون متفهما معها. إنها طفلة صغيرة بريئة!
ثم لم أرهما ، لا هو ولا  هي لمدة أشهر عدة. ما الذي كان قد حدث؟ كنت أتلفن له، لكنه لم يكن يرد على مكالماتي. كنت أذهب إلى منزله، ولكني لم أجده هناك.
كان ذلك الحب الجنوني قد حطّمه بشكل فظيع. خسارة، رجل فحل وظريف مثله.
ولكن قبل أيام مضت استدعتني زوجته إلى المنزل. ذهبت هناك، وحكت لي زوجته ما كنت أعرفه من قبل. بكت. توسلت إلي بأن أساعدها. فــ"أومبرتو" لم يظهر منذ خمسة عشر يوما. لم يروه حتى في مكتبه. كأن الأرض ابتلعته. من المؤكّد أن شيئا كان قد حدث. وعدت زوجته بالبحث عنه.
بالبحث عنه ؟ كانت" لونيلّا" أول شخص خطر ببالي. أن أذهب عندها. فقد تفيدني حتما بخبر ما، حتّى ولو أنها قد تحكي لي خزعبلات من أول كلمة إلى آخرها ، كان ذلك أفضل من لاشيء. لحسن الحظ كنت أعرف عنوان منزل" لونيلّا".
ذهبت عندها على الثالثة زوالا. لو أنها علمت بقدومي، لما كانت قد حضّرت نفسها بشكل أفضل. كانت ترتدي فستانا قصيرا بسيطا جدا - ولكن مليئا بالنيات المبيّتة- وقميصا معرّى الكتفين. كانت تبدو على مرتاحة تماما. كانت في أحسن حالتها، مرحة، ومُهيَّجَةً نوعا ما.
كانت تعيش في  شقة صغيرة كلاسيكية من نوع تلك الشقق التي تسكنها الفتيات الوحيدات ، الضالات والساذجات. كانت شقتها تحتوي على أثاث من نوع روكوكو زائف، وعلى جهاز تلفزيون، مدوّرة أسطوانات وبسط فارسية زائفة. وعلى الجدران كانت معلقة لوحات ثقيلة مذهّبة تمثل مناظر فظيعة. أو أكرمتني بكأس من الويسكي، ثم شغّلت أسطوانة لــ"جو سنتييري[2]". 
دخلت مباشرة في الموضوع فقلت لها:
- اسمعي، ماذا جرى لــ"أومبرتو"؟
- "أومبرتو"؟ قالت هي مندهشة. ليتني أعرف أين هو. لم أره منذ شهرين...لا بل منذ أكثر من شهرين. إنه رجل طيّب، لكنه ممل للغاية! كان مغرما بي، إنه أمر لم يخف عنك، أليس كذلك يا سيّدي؟ ثم فجأة  اختفى. ولكن لندع هذه اللهجة المتكلفة؟ ألديك مانع في ذلك؟ إن التحدث من دون تكلف يسهّل الأمور ويجعل الحديث خفيفا.  
فأجبتها وأنا لست مقتنعا البتّة بكلامها. قلت:
- إذن لم  ترينه منذ شهرين يا سيدتي؟
 - "بوبي"، "موتشي". نادت هي في تلك اللحظة دون أن تجيب عن سؤالي.
ظهر في غرفة الاستقبال كلبين. بطباط قزم وقلطي حراسة[3]. كان هذا الأخير بدينا ورخوا. لست أدري ولكن بدا لي أن سبق لي وأن رأيته في مكان ما.
سارع الكلبين إلى" لونيلّا" التي كانت تضحك وتحاول إبقائهما بعيدين عنها. قالت
« كفا، كفا! !  هيا يا حبيبا قلبي»   
كان كِلا الكلبين مهيّجين. كانا يحاولان بشغف لحس عنقها، خدّيها وفمها. نهضت الفتاة وذهبت لتأخذ عصا مبرنقة بالأحمر طولها نصف متر تقريبا. سألتها قائلا:
- وماذا تفعلين بهذه العصا؟
- إنها عصا أستعين بها لتربيتهما.
لاحظت أن قلطي الحراسة لم يكن ينظر إلي، بل كان يبدو منزعجا بتواجدي في البيت. كان يبتعد إن كنت أحاول لمسه. كان شيئا غريبا. فكلاب قلطي الحراسة تنظر دائما إليك في الوجه.
"هل تعلم يا" دينو"، قالت" لونيلّا"، ثم جلست على الأريكة واستندت عليّ بحيث أنني أحسست بكل جسدها، ولكن ذلك لم يدم إلا لحظة. "هل تعلم أن "موتشي" لطيف؟"
- حقّا؟ قلت. معذرة ولكن "أومبرتو"...
- أنظر، من فضلك. أنظر كم هو ذكي.
رفعت غطاء لعبة من الخزف مملوءة بالبسكويت. أخذت حبّة بسكويت بيدها اليسرى، وأبقتها مرفوعة فوق أنف البوكسر اللاهث.
- انتظر!
رفع الكلب أنفه نحو حبّة البسكويت واستعدّ لعضها وإذا هي توجّه له بالعصا ضربة على الأنف. رجع الكلب إلى مكانه وهو يحرّك ذيله بشدة.
ثم وضعت هي حبة البسكويت فوق أنف الكلب، وبيدها اليمنى لوحّت بالعصا ناهية. قالت للكلب:
- انتظر يا "موتشي"! يا "موتشي" اللطيف!
كان قلطي الحراسة جامدا في مكانه، وكانت حبة البسكويت في توازن متقلقل فوق أنفه. خيطان من اللعاب كانا ينزلان من طرفي فمه.
- قلت لك انتظر.
دام الإنتظار دقيقة كاملة. ثم نفد صبر قلطي الحراسة وحاول أخذ البسكويت. وجّهت له الفتاة ساخطة ضربة جافة بعصاها، فسقطت حبة البسكويت على الأرض. قالت لي وهي في غاية من الرضا:
-أرأيت كم يغار الواحد من الآخر؟
كان البطباط يتتبّع المشهد باهتمام كبير. كان قلقا هو كذلك.
في النهاية حصل قلطي الحراسة على حبّة البسكويت. ولكن لونّيلا جربته من جديد فقالت له:
- هيا يا موتشي. أعطيني قدمك. هيا، أعطيني قدمك لكي ألاطفك لاحقا.
رفع قلطي الحراسة قدمه اليمنى. كانت عيناه تحدّقان بعمق في الفتاة. ضربته هذه الأخيرة بعصاها ضربة عنيفة جعلت الكلب ينزل قدمه.
"لا تعطيني قدمك هذه، أريد قدمك الأخرى"، قالت له، فرفع قلطي الحراسة قدمه اليسرى. كانت" لونيلّا" تستمتع بقدر كبير.
سألتُها فقلت:
-لماذا سمّيته "موتشي"؟ أو لم كنت تسمّين  "أومبرتو" "موتشي" كذلك؟
-معلوم. معلوم كنت أسمّيه كذلك. ولكنها مجرّد صدفة...أو لعلّها علامة بأنني، في قرارة نفسي، أحب "أومبرتو".
ثم كانت تنظر إلي ضاحكة، بنظرتها الصفيفة والساذجة تلك.
التفتت بعدها نحو البطباط الصغير وقالت له: "هيا بوبي، تعال عند ماماك العزيزة". احتضنته بين ذراعيها، لاطفته، وكانت تتركه يبوسها.
غار  قلطي الحراسة وانتصب شعر ظهره. كنت أناديه قائلا: "موتشي، موتشي". ولكنه لم يستجب لندائي. فقد كان اعتزم أن يتجاهلني.
قلت:
- انظري، لديه ندبة في طرف عينه اليسرى، مثل ندبة "أومبرتو". إنه لألامر غريب!
- حقّا؟ قالت "لونيلّا"، فرحانة. لم ألاحظ ذلك.
كان قلطي الحراسة قد كف عن تحريك ذيله، في حين كانت سيّدته تستمر في مداعبة الكلب الآخر. قفز "موتشي" وحاول توجيه ضربة بقدمه لغريمه. فقالت له "لونيلا" ساخطة:
-يا أيها الكلب القذر! ووجّهت له ركلة في أنفه بكل ما تملكه من قوّة. لقد غرت، أليس كذلك؟ اذهب إلى حجرتك!  هيا، بسرعة يا أيها القذر! وإذا بها توجه له ركلة ثانية عنيفة ومسمومة.
أطلق قلطي الحراسة نباحا وهو يتضرّع إلى سيّدته بعينيه ثم انسحب وذهب يختبئ تحت الطاولة.
قالت القحبة الصغيرة العديمة الشفقة:
- هل رأيت تصرف هذا الكلب القذر القليل الأدب؟ لكنني لقّنته درسا لن ينساه. يجب أن تتعامل هكذا مع الكلاب، وإلا سيصبحون أسياد المنزل. يجب أن تبرحهم ضربا بمجرد ارتكابهم لخطأ ما...أن تضربهم في الأنف وهو الموضع الذي يؤلمهم أكثر. وحينها سيصبحون .

ثم كانت تضحك، منتصرة.
وأخيرا jحدّق فيّ قلطي الحراسة. كان مختبئا تحت الطاولة يرتعش. كانت نظراته نظرات مخلوق مقهور، منهزم، منطفئ، مدمّر، مهان، مخلوق كان لا يزال يتذكّر بغموض فخر شبابه الضائع.
كان ينظر إلي والدموع تفيض من عينيه. بؤبؤاه، تلك النظرة، تلك النفس. كيف كان ينظر إلي. مسكين "أومبرتو"!  



[1] اسم لساحة مشهورة في مدينة ميلانو الإيطالية   Piazza della Repubblica
[2] جو سنتييري:  Joe Sentieri مغنّ إيطالي مشهور (1925-2007)
[3] اسم لنوع من الكلاب. يعرف كذلك باسم "البوكسر" Boxer 

تعليقات

المشاركات الشائعة